في زمن تتسارع فيه التكاليف وتتقلّص المساحات الآمنة، يبدو السؤال بريئًا في ظاهره: "هل أحتاج إلى عمل إضافي؟"
لكن الحقيقة أن هذا السؤال، البسيط في ظاهره، يُخفي خلفه أحد أعقد التحديات التي يواجهها الإنسان المعاصر.
بين الرغبة في الاستقرار المادي، والخوف من الفقر، والسعي وراء حلم حياة أفضل… يتأرجح كثيرون بين عملهم الأساسي، وساعات إضافية يقضونها في مشروع جانبي، أو وظيفة ثانية، أو "فريلانس" بلا نهاية.
لكن هل الحل فعلاً في أن نعمل أكثر؟ أم أننا نُخفي أزمة أعمق خلف شعار الإنتاج المستمر؟
في بعض الحالات، لا مفر من العمل الإضافي.
إذا كانت الوظيفة الأساسية لا تغطي أساسيات الحياة، أو كنت تسدد قرضًا، أو تدعم أسرة، أو تمرّ بظرف مالي طارئ، فإن السعي لعمل إضافي ليس ترفًا، بل ضرورة.
لكنه يصبح كذلك فقط حين يكون اختياريًا ومدروسًا… لا حين يكون هروبًا من أزمة أو انسياقًا خلف ضغط اجتماعي.
كما أن العمل الإضافي قد يكون وسيلة ذكية لتأمين مستقبل أفضل، أو للانتقال من وظيفة مرهقة إلى مشروع خاص أكثر حرية، أو لتعلّم مهارة جديدة تزيد من فرصك في سوق العمل.
من هذه الزاوية، العمل الإضافي ليس عبئًا، بل فرصة.
العمل الإضافي، مهما بدا نبيلًا، قد يتحوّل إلى سجن ناعم إن لم ننتبه.
فالإنسان ليس آلة. والإنتاج المستمر، مهما غلّفناه بشعارات، يستهلك الروح والجسد والعلاقات.
ما الفائدة من تحسين دخلك، إن كنت تُقصي نفسك عن الحياة التي تعمل من أجلها؟
وإلا أصبح الثمن باهظًا… مهما بدا المردود مغريًا.
الكثير من العاملين بوظيفتين يكتشفون بعد فترة أن طاقتهم الذهنية مستنزفة، نومهم متقطع، علاقاتهم الاجتماعية باهتة، وقتهم مع أسرهم شبه معدوم، وحياتهم تسير على وضع "النجاة اليومية"، لا "العيش الحقيقي".
ما الجدوى من المال، إن فقدت صحتك؟
العمل الإضافي يجب ألا يُكلّفنا راحة البال، أو الدفء الأسري، أو القدرة على الاستمتاع بالحياة.
يعيش جيل اليوم تحت ضغط مستمر من "ثقافة الإنتاج".
إن لم تكن تعمل في أكثر من مجال، إن لم تكن "مشغولًا دائمًا"، إن لم تُظهر للناس أنك تركض بلا توقف… فأنت متقاعس أو لا تطمح.
وهذه صورة غير واقعية، بل خطرة، لأنها تربك الشعور بالرضا، وتدفع الناس إلى إرهاق أنفسهم فقط ليثبتوا شيئًا لا ضرورة له.
تسويق الإنجاز على المنصات الرقمية خلق صورة نمطية مدمّرة: الشاب الذي يعمل 18 ساعة في اليوم، يطلق مشروعًا، ويستثمر، ويسافر، ويتعلّم… كل ذلك دون أن يتعب.
نحتاج إلى ثقافة جديدة تُعيد للراحة قيمتها، وللتوازن احترامه، وللوقت الشخصي قدسيته.
دعنا نُصارح أنفسنا:
أحيانًا نبحث عن عمل إضافي لا لأننا نحتاجه، بل لأننا نشعر بالفراغ، أو بالخوف، أو بعدم الكفاية. نبحث عن مزيد من الدخل، ونحن لا نعرف كيف نستمتع بما لدينا أصلًا. نُضاعف الجهد… لأننا نخشى أن نُواجه السؤال الأصعب:
"هل أنا سعيد حقًا؟"
المال مهم، لكنه ليس مقياس القيمة الشخصية، ولا غاية الحياة. العمل الإضافي يجب أن يُضيف لنا شيئًا، لا أن ينتزع منّا أنفسنا.
اسأل نفسك بصدق:
هل أحتاج فعلاً إلى هذا العمل الإضافي؟
هل يخدم أهدافي الطويلة؟ أم أنه مجرد ضغط وقتي؟
هل لدي مساحة للراحة؟ للعائلة؟ للنمو الشخصي؟
هل أدفع من وقتي وصحتي أكثر مما أكسبه ماليًا؟
العمل الإضافي ليس عدوًا، لكنه أداة يجب استخدامها بحكمة. اختره إذا كان وسيلة لنموك، لا رد فعل لخوفك. واجعله خيارًا واعيًا، لا هروبًا من مواجهة حياتك كما هي.
ففي النهاية، لا قيمة لأي دخل… إن كنت تدفع مقابله سعادتك.
مرحبًا بك في منطقة التعليقات! كن مهذبًا وابقَ في صلب الموضوع. قم بزيارة الشروط والأحكام الخاصة بنا واستمتع معنا!
لم تتم إضافة أي تعليقات بعد، كن الأول وابدأ المحادثة!